الخميس 2018/12/13

ما غاية النظام من تصنيف سورية إلى أقاليم تخطيطية؟

أثارت موافقة "المجلس الأعلى للتخطيط الإقليمي" على ( تصنيف) الأقاليم التخطيطية السورية في سبعة أقاليم وهي أقاليم : دمشق الكبرى، الجنوبي، البادية،الشرقي، الشمالي، الأوسط، والساحل، زوبعة في أوساط المعارضة السورية على اعتبار أنها خطوة باتجاه اللامركزية غير واضحة الأبعاد، كما عدها البعض تعبيراً عن تقاسم النفوذ بين دول الجوار والدول الكبرى المتدخلة في الشأن السوري، وأنها إحدى خطوات الشرق الأوسط الجديد.

الأقاليم التخطيطية التي أعلنتها هيئة التخطيط الإقليمي2018 

 

إقليم الشرق حسب برنامج الـ MAM  في 2007

فلنضع خطوة النظام والتحليلات التي تبعتها على طاولة البحث ولنوسع الرؤيا قليلاً في مصطلح جديد إلى حد ما على أذن السوريين الذين يتوقعون من النظام الهروب إلى الأمام والتماهي مع مصالح الدول، ويتوجسون من كل حركة وسكنة يُقدِم عليها.

التخطيط الإقليمي اصطلاح(1) يستعمله علماء السياسة والمهندسون ومختصّو علم الاجتماع والجغرافيون وغيرهم ، ويقصدون به المنهاج العلمي الذي يتم في إطار دراسات متتابعة لمناقشة التنظيم الانتفاعي للثروات الطبيعية والبشرية في أية مساحة على سطح الأرض.

وهو تخطيط موجه مكانيًا في المستوى فوق المحلي و دون الوطني، وهو الأسلوب الوحيد القادر(2) على معالجة المشكلات التي تصاحب النمو السريع والازدحام المُخيف في المدن، (بما يقدّمه من وسائل علمية وطرائق فنّية، لتحقيق التنمية الإقليمية المتوازنة للمناطق الريفية والحضرية على السواء في جميع أنحاء البلاد...). هو ببساطة تخطيط يقوم على تصنيف التراب الوطني إلى مناطق أو أقاليم تخطيطية على أساس تشابه مواردها ومشاكلها التي تحتاج لحل.

يعود ظهور المصطلح إلى ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي في الفترة التي تلت الكساد العالمي الكبير، وبعد ظهور الحاجة إلى معالجة خلل التوازن في التنمية بين مراكز الدول وأطرافها، ففي فرنسا مثلاً كان كتاب(3) "باريس والصحراء الفرنسية" 1947، صرخة مدوّية في وجه تركُّز النشاط الصناعي والتجاري  في العاصمة باريس وما حولها، وما أدى إليه ذلك من مشاكل جمّة أبرزها الهجرة من الريف للمدينة والتلوث البيئي والتفاوت في مستوى المعيشة وغيرها من المشكلات التي عرفت طريقها إلى البنى الاقتصادية للعديد من الدول الصناعية التي خرجت من الحربين العالميتين الأولى والثانية، فراحت تسعى إلى تبني أسلوب  التخطيط الإقليمي لإعادة التوازن إلى خطط التنمية الوطنية، وبالعودة إلى المثال الفرنسي، أحدثت فرنسا مفوّضية التخطيط والعمل الإقليمي (Datar) في عام  1963، فيما أَدرجت باقي الدول هذا الأسلوب من التخطيط أو هذا المستوى فوق المحلي وتحت الوطني، ووضعته بإشراف مؤسسات بمسميات عدة "مجلس أعلى للتخطيط الإقليمي مثلاً أو وزارة التخطيط الإقليمي، أو هيئة عليا...إلخ.

وبقي أسلوب التخطيط الإقليمي مهما تعددت نماذج وتوجُّهات الدول السياسية والاقتصادية، يحمل نفس الغايات، ويؤدّي نفس الأدوار مع فروقات التجارب من حيث مقدار الاعتمادية والحاجة الفعلية.

وبقي في العموم أسلوب تخطيط حتى في الدول التي تَطوَّر فيها، ليصل إلى درجة اعتماد الأقاليم التخطيطية كأحد مراحل الإدارة المحلية واللامركزية الإدارية؛ بقي الأمر في إطار تنسيق الخطط والمشاريع البينية بين المحافظات التي يتشكل منها الإقليم، وعلى المستوى الوطني توجد تلك المؤسسة العليا التي تحدثنا عنها والتي تعمل على تنسيق خطط ومشاريع الوزرات البينية المنبثقة عن الخطط الإقليمية.

في سورية التي عرفت بالتخطيط (الاشتراكي) المركزي وبالخطط الخمسية، جاء ذكر هذا الأسلوب التخطيطي في مدخل الخطة الخمسية العاشرة 2006-2010 ضمن الأهداف الاستراتيجية،  وتحت عنوان "خطة وطنية يقابلها خطط إقليمية ومحلّية"(4) حيث ورد نصاً (من أجل استكمال التسلسل التخطيطي "وطني، إقليمي، محلي" سيكون من بين أهداف الخطة الخمسية العاشرة وضع مخطط إقليمي طبيعي/مكاني، واقتصادي، اجتماعي، طويل الأمد، يحوّل سورية إلى مناطق وأقطاب للنمو، حيث سيشكل ذلك الأساس لعملية التنوّع الاقتصادي، ولخلق فرص العمل والنهوض بالفئات الأقل دخلا. والغرض من التخطيط الإقليمي التكاملي هو تقوية التعاون والتنسيق بين الوحدات الإدارية (المحافظات)، والاستفادة من اقتصاديات الحجم...، بل يعكس التزام الدولة للقيام بذلك النشاط الموسع وبعيد المدى، بالتنسيق مع القطاع الخاص الوطني والدولي، ومع الدول المجاورة بالنسبة للأقاليم الحدودية. ...).

و الجدير بالذكر أن التخطيط الإقليمي عرف طريقه إلى منطقتنا منذ عشرات السنوات، فالأردن مثلاً بدأ العمل بأسلوب التخطيط الإقليمي وصنّف ترابه إلى أقاليم تخطيطية منذ العام 1969 وكذلك فعلت مصر لاحقاً، دون أن يعني ذلك أيّ تغييرات في التقسيمات الإدارية.

في منتصف العام 2005 أي قبل الانطلاق المفترض لتنفيذ الخطة الخمسية العاشرة وضمن اتفاقية الشراكة الأوروبية المتوسّطية /عملية برشلونة/  تبنّت مفوضية الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع وزارة الإدارة المحلية برنامج تطوير إداري تقني يتضمن تهيئة الظروف في سورية للدخول في منطقة التجارة الحرة الأوروبية المتوسطية، وبما ينسجم مع الأدوار التي تضطلع بها المؤسسات الإقليمية والمحلية في الاتحاد الأوروبي كماورد في أهداف برنامج  تحديث الإدارة البلدية الذي عرف اختصاراً ببرنامج الـMAM (5)، وقد ورد في النتائج المتوقّعة للبرنامج تبنّي أسلوب التخطيط الإقليمي وإدارة النموّ العمراني، فتضمّن البرنامج وضع مُسوَّدة قانون التخطيط الإقليمي ودليل التخطيط الإقليمي، وقدم تدريبات في هذا الخصوص وعمل على إدخال مفهوم التخطيط الإقليمي إلى مناهج الجامعات السورية.

وإذا قارنّا نص قانون التخطيط الإقليمي رقم 26 لعام 2010  بمسوّدة القانون التي عرضها السيد "جورج هارتمان" ضمن أسبوع العلم (التخطيط الإقليمي والتنمية المستدامة)  في  دمشق في  تشرين الثاني 2007 ، نجد أن نص القانون يكاد لا يختلف عن المسودة التي وضعها السيد هارتمان (وهو أحد خبراء برنامج الـMAM )، وفوق ذلك إذا أمعنّا النظر في الورقة البحثية التي تقدّم بها نيابة عن البرنامج والتي حملت العنوان (رؤية مستقبلية للتخطيط الإقليمي في سورية) نجدها ومن ذلك الوقت أي منذ العام 2007 وقبل أحد عشر عاماً من اليوم، تبنّت النصح باعتماد تخطيط إقليمي يقوم على ستة أقاليم بفارق وحيد عن التصنيف الصادر مؤخراً، وهو أن المسوّدة الأولى دمجت بين إقليمي المنطقة الوسطى والبادية دون أي اعتبار لمبادئ التخطيط الإقليمي وللفروق الواضحة بين كل من مؤشرات البادية والمنطقة الوسطى، ولسبب وحيد حينها أن تلك هي رغبة الرجل القوي آنذاك والمقرب من بشار الأسد، محافظ حمص "محمد إياد غزال" الذي أصرَّ على أن تبقى البادية ضمن الخطة الإقليمية للمنطقى الوسطى، رغم أن البرنامج عمل منذ ذلك الوقت على خطة إقليمية للبادية يكون مركزها مدينة تدمر(6).

وبالعودة إلى الخرائط الأولى والأفكار الأولى وملفات البرنامج، نجد أنه لا جديد في التصنيف الذي أعلنه النظام.. فأين المشكلة؟

صدر قانون التخطيط الإقليمي، وأُحدث كل من المجلس الأعلى للتخطيط الإقليمي وهيئة التخطيط الإقليمي، ولا بد من الإشارة هنا أن المجلس الأعلى للتخطيط الإقليمي هذا ليس جسماً جديداً بقدر ماهو آلية تخصّصية، فرئيس المجلس الأعلى للتخطيط الإقليمي(7)، هو رئيس مجلس الوزراء، وزير الإدارة المحلية نائبا للرئيس، وأعضاؤه وزراء الزراعة و الاسكان و السياحة، والريّ والنقل والصناعة والدولة لشؤون البيئة، إضافة لعضوية كل من رئيس هيئة التخطيط الإقليمي مقرِّراً، ورئيس هيئة تخطيط الدولة و مدير المكتب المركزي للإحصاء.

في العام التالي لصدور قانون التخطيط الإقليمي أي في العام 2011 ، أصدر النظام القانون 107 الخاص بالإدارة المحلية ليكرس مسميات التقسيمات الإدارية، وبالطبع ليس من بينها تسمية الإقليم، ليكرّس التوجه بأن أسلوب التخطيط الإقليمي الذي اعتمده ليس خطوة باتجاه اللامركزية الإدارية، إنما له هدف تخطيطي بحت، ويبقى التنفيذ من خلال التقسيمات الإدارية الحالية.

ما هي أشهر من تشكيل المجلس الأعلى للتخطيط وهيئة التخطيط الإقليمي المعنيتين، حتى تفجرت الثورة في سورية، فتعثرت هيئة التخطيط الإقليمي، وتراجع إلى أن انقطع الدعم المالي والفني التي حظيت بهما ضمن برنامج الـMAM، وتراجعت مسألة التخطيط الإقليمي أمام أولويات النظام في الحفاظ على سلطته التي هزت أركانها ثورة عارمة جاءت في أحد تجلياتها تعبيراً عن تراكمات من فشل التنمية وفساد الإدارة.

فجأة وفي ربيع العام 2018 يعود النظام إلى الحديث عن دور التخطيط الإقليمي في التنمية، ويتذكر أنه أحدث هيئة لهذا الغرض، يتزامن ذلك مع بدء طروحات إعادة إعمار البلاد التي دمرتها حرب النظام على الشعب، في محاولة للتذكير بالأدوات التي يملكها وبقابليته للتعاون، بل ويعود لتقديم المخرجات التي عمل عليها  برنامج  الـMAM  دون أية إضافات تُذكَر، سوى ماذكرناه بخصوص البادية.

وهي رسالة بائسة لا تجد حتى الآن أية آذان صاغية لدى شركاء الأمس (الأوروبيين) الذين أعلنوا موقفاً واضحاً بأنهم لن يساهموا في إعادة الإعمار إلا ضمن حل سياسي على أسس لا يوافق النظام على المضي خطوة واحدة حتى الآن وفقها. وهذا ماحدث بالفعل فلم يُلقِ أحد بالاً لهذا الإعلان الذي قدّم فيه النظام تصنيفه الإقليمي لسورية ضمن سبعة أقاليم تخطيطية. باستثناء بعض الأصوات المعارضة التي قرأت الإعلان بسطحية، وضخّمت الأمر وراحت تلبس المقترح الذي عمره أحد عشر عاماً تهيُّؤات وفرضيات العام 2018 وتنسج حوله تخوفاتها من نظام لا يتورّع عن شيء، إما عن قلة دراية واطلاع أو حباً بالسبق الصحفي، أو حتى بسبب جاذبية التهويل الذي تنحاز إليه دون أن تقرر نفسية الضحية، فحملت الأمر على غير محمله وتعاملت معه على أنه تقسيمات إدارية جديدة لا وبل سياسية على أسس طائفية وعرقية يدحضها الواقع تماماً.

والأكثر إضراراً بالمشهد السوري العام أن نرفع الصوت ونقول إن النظام يفعل كذا وكذا، لنبدو في النهاية بمظهر السذّج ، خاصة وأن البرنامج وكل مخرجاته منذ البداية هو مشروع مشترك مع الأوروبيين، فأية نظرة نرسخها لديهم أننا بهذه السطحية، في حين يحاول النظام إعادة التذكير وتحريك حبال الودّ بأنه لاتزال لديه أدوات ومؤسسات، لا يملكها الآخرون، وهي النتيجة الطبيعية عندما أصابت عدوى التحليل السياسي الجميع فراح المختص يرى بعيون السياسي بدل أن يحلل السياسي الواقع ويراه بعيون المختص. الأمر الذي يستوجب إعادة ترتيب الأدوار بحيث يمارس السياسي السياسة فقط ويبحث ويترك للأدوات والأدوار الأخرى أن تنتج مفاعيلها في خدمة مشروع الثورة.


المراجع والهوامش :

1_ الموسوعة البريطانية

2_ الأمم المتحدة ، حلقة دراسية عن الإسكان وتحسين المجتمع في آسيا والشرق ، نيودلهي ، الهند ، 1955

3_ “Paris et le désert français ““ باريس والصحراء الفرنسية ” 1947

Jean – François Gravier

4_ المدخل للخطة الخمسية العاشرة 2006-2010.

5_ اختصار لــ Municipal Administration Modernization

6_ 2008-06-07 مقال ( تدمر عانس البادية تعود عروسا يحتضنها عريسها وتنام هانئة بين يديه) موقع ألف الإلكتروني

7_ قانون التخطيط الإقليمي 26 لعام 2010 المادة 6.